التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
عقب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ظهرت العديد من الفتن والاضطرابات في المجتمع الإسلامي، وكانت تلك الفتن والقلاقل بمثابة التحديات الأكبر أمام الخليفة
عقب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ظهرت العديد من الفتن والاضطرابات في المجتمع الإسلامي مع العلم أن بعضها بدأ قبيل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كرِدَّة الأعراب لكن اشتد أثره عقب الوفاة لانشغال الأمة، وكانت تلك الفتن والقلاقل بمثابة التحديات الأكبر أمام الخليفة الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فكانت بمثابة الإرث الثقيل ولكنه كان جديرًا بها.
أوضاع مضطربة
الحدثان البارزان في خلافة أبي بكرٍ رضي الله عنه القصيرة[1] هما: الرِّدَّة وانطلاق الفتوح الإسلامية خارج نطاق الجزيرة العربية، وكان لكلٍّ منهما تأثيره الخاص على مستقبل الدَّعوة الإسلامية والعرب، وتطلق جميع روايات المصادر على التطورات التي حدثت على أطراف الجزيرة العربية عقب وفاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم وما نجم عنها من انتفاضة القبائل؛ بحركة الرِّدَّة أو بالارتداد عن الإسلام[2]. على أنَّ هذا الموقف لا يُمكن المحافظة عليه بعد الأبحاث المستجدَّة في تاريخ صدر الإسلام؛ ذلك أنَّ التطوُّرات التي حدثت بعد وفاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم كانت أكثر تباينًا في نوعها من أن نُدخلها تحت حركة الرِّدَّة؛ لهذا لا يُمكن الحديث بأيِّ حالٍ عن ارتدادٍ عامٍّ عن الإسلام، ولا بُدَّ من أن نبحث في كلِّ حالةٍ على حدة ونتوغَّل في عمق كلِّ قبيلة؛ بل في كلِّ بطنٍ من بطون القبائل الكبيرة.
يُواجه المؤرِّخ صعوبةً في استنباط أسبابها الدينيَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة؛ نظرًا إلى قلَّة المادَّة التاريخيَّة المتعلِّقة بظروفها وحيثيَّاتها، مع أنَّها شكَّلت تحدِّيًا كبيرًا لهيبة الدولة الإسلاميَّة الناشئة، وأوَّل اختبارٍ للمجتمع الإسلاميِّ الجديد، وأوَّل شرخٍ يُصيب هذا المجتمع الموحَّد في إطار الدين الإسلامي، كما كانت المواجهة الأولى للخليفة حين وُضعت كفاءته أمام الامتحان الصعب، وعملت على إنهاء نفوذه على كثيرٍ من مناطق الجزيرة العربية؛ لذلك فإنَّ علينا البحث عن اللمحات والإشارات المبعثرة في المصادر، ومحاولة جمعها وتصنيفها وتنسيقها بما يسمح بتشكيل صورةٍ قريبةٍ نسبيًّا من الحقيقة التاريخيَّة. ويُذكر أنَّ الرِّدَّة لم تنشأ صدفة ولم تكن مفاجأة؛ وإنَّما لها مقدِّماتها وشروطها المرتبطة ارتباطًا عضويًّا بتاريخ تنامي نفوذ المدينة وما نجم عن ذلك من التحاق الكثير من القبائل بها.
مقدمات الرِّدَّة
اتَّجهت سياسة النبيِّ صلى الله عليه وسلم العامَّة نحو توحيد العرب تحت راية الدين الإسلامي في مؤسسةٍ تتخطَّى النظام القبلي، واستطاع أن يُؤسِّس جماعةً دينيَّةً سياسيَّةً جسَّدت كيان دولة، فدخل العرب عامَّتهم في هذا الدين، وانضووا تحت لواء النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ودانوا له بالزعامتين الدينيَّة والسياسيَّة؛ بفعل أنَّه يصدر أحكامه عن وحي الله وأمره، بالإضافة إلى أنَّه كان مثاليًّا في سلوكه؛ إذ سوَّى في المعاملة بين القبائل المختلفة، ولم يخضع لنزعات النفس البشرية وميلها إلى إيثار الأهل والعشيرة، ويُعدُّ ذلك حدثًا دينيًّا وسياسيًّا بالانضمام إلى دولة المدينة واعتناق دينها، وهذه سمةٌ توحيديَّة.
هكذا تَمَّ توحيد القبائل في الجزيرة العربية في دولةٍ واحدة يرأسها النبيُّ صلى الله عليه وسلم ومركزها المدينة؛ لكنَّ هذه الوحدة كانت مفكَّكة؛ فالاضطراب الذي لازم مواقف القبائل العربية -التي لم يترسخ الإسلام في قلوبها نظرًا إلى حداثته- وحَّد التيَّارات المختلفة في المدينة، فالتفَّ الجميع حول الخليفة؛ أمَّا خارج نطاق المدينة وفي أرجاءٍ واسعةٍ من جزيرة العرب، فلم يكن يُوجد سوى أشكالٍ من التحالف السياسي مع المدينة، بالإضافة إلى ذلك فإنَّ الدخول في الإسلام كان قرارًا سياسيًّا استهدفت به زعامات القبائل المحافظة على كيانها، وتحاشي خطر المسلمين عليها.
لكنَّ هذه الزعامات ربطت بين شخص النبيِّ صلى الله عليه وسلم وبين ما حقَّقه للعرب بعامَّةٍ من مكاسب دينيَّة واجتماعيَّة وسياسيَّة غيَّرت تمامًا حياة العربي والنظام القبلي الاجتماعي؛ فقد استَبدل الإسلام منذ -بداياته- رابطة الدين والعقيدة برابطة الدم، والشريعة بالغزو والجهاد والعرف، ووحدة الأمَّة بالتمزُّق القبلي[3]. وحدَّ من النزاعات القبليَّة التقليديَّة من خلال رفع مبدأ الثأر بشكله القبلي، ونقل مسئوليَّة ذلك إلى الجماعة الإسلاميَّة، وشرَّع الجهاد في سبيل الله بدلًا من القتال من أجل الثأر أو التسابق على الماء والكلأ، وأطاح بفرديَّة القبيلة لقاء فكرة الجماعيَّة التي تستند إليها الأمَّة، وأرسى قواعد الدَّولة الإسلاميَّة، وساوى بين المسلمين، ودعا إلى التكافل والتضامن، ونظَّم المجتمع العربي على نحوٍ يتناسب وطباع العرب[4]. ومع ذلك لم يتمكَّن من الإنجاز التَّام والنهائي لمدِّ نفوذ الدولة الإسلامية الناشئة على سائر أنحاء الجزيرة العربية، وبرهنت حركة الرِّدَّة على ضعف هذا الكيان السياسي في الأطراف خاصَّةً، وهشاشة دخول القبائل في الإسلام، وأنَّ تجذُّر العادات والتقاليد القبليَّة في النفوس كان أقوى من رابطة الدين.
توحيد لم يُستكمل
الحقيقة أنَّ سياسة التوحيد لم تكن قد استُكملت، ولم يتجذَّر الدين إلَّا بين سكَّان المدينة ومكَّة والطائف، وبعض القبائل القاطنة بجوارهم. ولا تدع المصادر مجالًا للشَّكِّ في الاتساع الشديد لحركة الرِّدَّة سواءٌ من النَّاحية القبليَّة أو من النَّاحية الجغرافيَّة؛ فلقد خرجت الأكثريَّة الساحقة للقبائل على حكم المدينة، ولم يبق مواليًا سوى نواةٍ صغيرةٍ جدًّا تتألَّف من القبائل التالية: قريش وحلفاؤها التقليديُّون الذين كانوا يعيشون بالقرب من مكَّة، والأوس والخزرج وحلفاؤهم التقليديُّون الذين كانوا يسكنون بالقرب من المدينة، ثقيف في الطائف؛ فقد ثبتت مزينة وغفار وجهينة وبلي وأشجع وأسلم وخزاعة على الإسلام. ويُذكر أنَّ هذه القبائل تربطها بمكَّة والمدينة مصالح مشتركة، وهي تدخل تقليديًّا في تحالفٍ معها؛ أمَّا قبائل هوازن وبني عامر وسُلَيم فقد اتَّخذوا موقفًا متربِّصًا.
أمَّا سكان المناطق الأخرى في الجزيرة العربية ولا سيَّما اليمن وعُمان وحضرموت في الجنوب، فلم يكن الدين قد تجذَّر في نفوس سكانها، ولقد كان إسلامهم سطحيًّا ومرحليًّا، واستسلامًا للأمر الواقع خشية القتل والسبي، وليس اقتناعًا بالإسلام عقيدةً ونظامًا ومنهجًا[5]. كما كان وليد ظروفٍ سياسيَّةٍ خاصَّة أحدثها دخول قريشٍ في الإسلام، ولم يؤدِّ إلى خلق ترابط ووثاقٍ اجتماعيٍّ ماديٍّ فيما بينهم، كذلك كان موقفهم من الإسلام ضعيفًا؛ إذ إنَّ الإسلام لم ينتشر في هذه المناطق البعيدة عن مكَّة والمدينة إلَّا بعد فتح مكَّة وغزوة حنين والطائف؛ أي بعد العام الثامن للهجرة، وظلَّ نشاط النبيِّ قبل ذلك محصورًا في المنطقة المحيطة بالمدينتين المقدستين، ومعنى ذلك أنَّ كثيرًا من عرب الأطراف دخلوا في الإسلام وفي قلوبهم مرضٌ أو شيءٌ من النفاق؛ لأنَّهم أسلموا مقتدين برؤسائهم الذين تقبَّلوا سلطة الحكومة الإسلاميَّة في المدينة، وأطاعوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعد أن حقَّق انتصاراتٍ كبرى على القوى المعادية له ولدعوة الإسلام؛ للمحافظة على كيانهم وإبعاد خطر المسلمين عنه، ولا يدلُّ إرسال الوفود القبليَّة إلى المدينة لتُعلن إسلامها على أنَّ القبائل فهمت واستوعبت الإسلام وآمنت بتعاليمه وحرصت على الدخول فيه، بخاصَّةٍ أنَّ المدَّة الزمنيَّة بين دخول هذه القبائل في الإسلام ووفاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم كانت قصيرة لا تتجاوز ثلاثة أعوام، بالمقارنة مع المدَّة التي استغرقها استقرار الدين الإسلامي في مكَّة والمدينة البالغة عشرين عامًا، كما أنَّ هذه القبائل الضاربة على الأطراف كانت تمرُّ بمرحلة تحوُّلٍ سياسيٍّ لتتخلَّص من الضغط الفارسيِّ الواقع عليها وبخاصَّةٍ في اليمن، بالإضافة إلى الصراعات الداخلية -بينها- على النفوذ.
تفاوت في الإيمان
لذلك تفاوت إيمان هذه القبائل بين القوَّة والضعف بشكلٍ عامٍّ، ولقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يعي ذلك تمامًا، ونزلت بهذا الصدد الكثير من الآيات القرآنية التي تُوثِّق هذه الواقعة التاريخيَّة، وهي تتهم الأعراب -وهم الأكثرية المطلقة للعرب آنذاك- بالضعف والتخاذل والكفر والنفاق: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 97، 98].
نفهم من هذا النصِّ القرآنيِّ أنَّ عددًا من القبائل كانت لا تُخفي موقفها المتربِّص من الإسلام وبالنبيِّ صلى الله عليه وسلم على الرغم من دخولها في الدين الجديد، وولائها ومبايعتها للنبيِّ صلى الله عليه وسلم.
ولعلَّ أكثر الآيات دلالةً وبيانًا على موقف القبائل من الإسلام تلك التي تقول:
{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 14]. وقد نزلت هذه الآية في وقتٍ أخذت الكثير من القبائل تُسارع عبر وفودها للدخول في الإسلام[6].
كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم قد شعر بما تنعم به هذه القبائل من حرية العيش، فتركها تعيش حياتها الخاصَّة مع الالتزام بالإسلام؛ لذلك لم تفقد شيئًا من حريَّتها السياسيَّة، ولم يكن الحكم الإسلاميُّ عليها يتجاوز العهود التي ارتبطت بها مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم التي لم تكن في نظرها سوى حلفًا أو عقدًا مع شخص النبيِّ صلى الله عليه وسلم نفسه لدوافع وشروطٍ معيَّنة فرضتها ظروفٌ خاصَّةٌ نشأت عن اتِّحاد قريشٍ تحت رايته، وبوفاة الشَّخص المتعاقد معه تنتهي آليًّا صلاحية العقد إن لم يتمِّ البتُّ فيه مجدَّدًا مع شخصٍ آخر.
تذكر الروايات التاريخيَّة أنَّ ممثِّلي أسد وغطفان وطيء اجتمعوا -بعد وفاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم- وأرسلوا وفدًا مفاوضًا عنهم إلى المدينة مطالبين بإعفائهم من الزكاة، استقبل أبو بكر رضي الله عنه الوفد استقبالًا حسنًا لكنَّه رفض طلبهم بترك الزكاة رفضًا قاطعًا على الرغم من أنَّهم أكَّدوا عزمهم على الاستمرار في الدين والصلاة، ولمـَّا عادوا خائبين من المدينة ارتدُّوا والتحقوا بالمتنبِّئ طُليحة الأسدي[7]، وما يصحُّ على هذه القبائل يصحُّ –أيضًا- على الأكثرية السَّاحقة من القبائل مثل كِندة، وقضاعة، وهوازن، وغيرهم؛ حيث أعلنوا ارتدادهم وفضُّوا عقودهم مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم واستقلُّوا بأنفسهم.
رِدَّة تنمُّ عن نقصٍ فى الإيمان
يبدو أنَّ هذه القبائل التي ارتدَّت لم تكن تعلم ما يفرضه الدين الإسلامي عليها من واجباتٍ والتزاماتٍ وفروضٍ ربَّما كانت غير طبيعيَّة في نظرها، وكان معنى ذلك الخروج عمَّا أَلِفَتْ، وتغييرٌ جذريٌّ في مجرى حياتها الدينيَّة والاجتماعيَّة والحدِّ من حريتها، وسرعان ما ضاقت ذرعًا بالواجبات التي فرضها الإسلام عليها وبخاصَّةٍ الزكاة ورأت فيها انتقاصًا من حريَّتها الشخصيَّة والجماعيَّة، كما أوجدت نوعًا من الشعور بالإذلال لم تألفه هذه القبائل ممَّا يتعارض مع كبرياء العربيِّ وأنفته على الرغم من أنَّ الإسلام لم يعدِّ الجزية إتاوةً يدفعها المغلوب للمنتصر، فامتنعت عن دفع الزَّكاة لأبي بكر رضي الله عنه.
هذه كانت -على ما يبدو- نظرة القبائل للأمور، هذه النظرة التي لا يُمكن عزلها عن أحداث الرِّدَّة، وهكذا يتضح لنا كيف أنَّ أحداث الرِّدَّة كانت بهذا المعنى جزءًا لا يتجزَّأ من التركيبة السياسيَّة للأمَّة الإسلاميَّة نفسها، وكشفت هذه الحركة بوضوح عن الطابع التاريخي الملموس للكيان السياسي الذي أسَّسه النبيُّ صلى الله عليه وسلم ووطَّده عبر سنواتٍ طويلةٍ من الممارسة السياسيَّة العمليَّة.
عوامل خارجية
وأدَّى العامل الأجنبيُّ دورًا آخر في تحريك البواعث التي أدَّت بدورها إلى انتفاضة العرب وردَّتهم؛ ذلك أنَّ إرسال النبيِّ صلى الله عليه وسلم الكتب إلى الملوك والأمراء المجاورين، ومن بينهم عاهل الفرس وإمبراطور البيزنطيين "الروم"، يدعوهم فيها إلى الإسلام، ما جعل هؤلاء يعملون على إثارة الفتنة في بلادٍ ليس فيها من أسباب الوحدة غير الدين الجديد[8].
روى الطبري أنَّه: "لمـَّا بُويع أبو بكر رضي الله عنه وجمع الأنصار في الأمر الذي افترقوا فيه قال: ليتمَّ بعث أسامة، وقد ارتدَّت العرب إمَّا عامَّةً وإمَّا خاصَّةً في كلِّ قبيلة، ونَجَم النفاق، واشرأبَّت[9] اليهود والنصارى، والمسلمون كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية لفقد نبيِّهم صلى الله عليه وسلم وقلَّتهم وكثرة عدوهم"[10].
مِن ثَمَّ فإنَّ لنا أن نتصوَّر على الرغم من قلة المادة التاريخية وانعدامها أحيانًا، حجم الدور اليهودي والنصراني في حركة الرِّدَّة والتنبُّؤ في حياة أبي بكرٍ رضي الله عنه، ويُذكر أنَّ اليهود بخاصَّةٍ يعملون خفيةً ومن وراء حجاب، وقد أخفقت محاولاتهم لضرب الإسلام في عصر الرِّسالة، وكانت النتيجة التشتت والتردِّي بعد أن طردهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم من المدينة وأخضعهم في خيبر، فتربَّصوا بالإسلام والمسلمين.
كان لتنوع الحياة في الجزيرة العربية دورٌ في اضطراب العرب؛ فحياة الحضر والبدو تتجاور مع ما بينها من تباين، مَّما يجعل الوحدة القوميَّة أمرًا ليس سهلًا، ثُمَّ إنَّ طبيعة حياة البدويِّ لا تخضع لحاكمٍ على النحو الذي يفهمه الحضري؛ فالبدويُّ لا يُقايض باستقلاله الفرديِّ شيئًا، كما ترى القبيلة في البادية أنَّ حياتها تكمن في استقلالها فتُقاوِم كلَّ ما من شأنه الانتقاص أو الحد منها. وعندما انتشر الدين الإسلامي بين العرب -وهو يدعو إلى التوحيد- خشي هؤلاء من أن تمتدَّ وحدة الإيمان بالله إلى وحدةٍ سياسيَّةٍ تقضي على استقلال أهل البادية[11].
عصبيَّة تُنتِج نبوَّة
برزت العصبيَّة القبليَّة بعد وفاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم بأوضح معانيها عند بعض القبائل، وقد اتَّخذت موقفًا سياسيًّا معاديًا من قريش -بشكلٍ خاصٍّ- التي تزعَّمت بنظرها جماعة المسلمين؛ ذلك أنَّ هذه القبائل لم ترضَ من قبل بتفوُّق قريش وزعامتها عليها، وعدَّت استمرار هذه الزعامة بعد وفاة النبيِّ نوعًا من الوراثة التي لم يألفها العرب؛ لذلك لم تأخذ بيعة أبي بكرٍ رضي الله عنه طابعها الإجماعي في أوساط القبائل، فكان لبعضها موقفٌ لا ينسجم تمامًا مع الأسلوب الذي تَمَّ بموجبه اختياره خليفةً دون أن يكون لها رأيٌ في هذا الاختيار.
يرتبط بالعصبيَّة وما يتولَّد عنها من تنافسٍ وتحاسدٍ بين القبائل ما نلاحظه من تسابق في ادِّعاء النُّبوَّة، فظهر المتنبِّئون في أنحاءٍ مختلفةٍ من الجزيرة العربية، وكانت هذه الظاهرة أحد الأصداء التي أحدثها نجاح النبيِّ صلى الله عليه وسلم عقب فتح مكَّة وتوسيع نفوذ الحكومة الإسلامية عبر توحيد مكَّة والمدينة.
وقد أتى الخطر الأكبر من شخصيَّتين ادَّعتا النبوَّة في حياة النبيِّ صلى الله عليه وسلم:
الأولى: هي المتنبِّئ عبهلة[12] بن كعب -ذو الخمار- المعروف بالأسود العنسي الذي نشر دعوته في اليمن.
الثانية: هي المتنبِّئ مسيلمة بن حبيب، المعروف بمسيلمة الكذَّاب الذي ادَّعى النُّبوَّة في بني حنيفة في اليمامة.
يُوضِّح الاستعراض -الذي سنتعرَّض له في المقال التالي- للحوادث المرتبطة بظهور هاتين الشخصيَّتين في المركزين الخَطِرَيْن المنافسين للمدينة، كيف أنَّه التقت في هذه الأحداث حركتان مختلفتان؟
الحركة الأولى: هي حركة تأسيس تحالفاتٍ قبليَّةٍ على غرار التحالف الإسلامي، وتقليده في الشكل من خلال ظهور المتنبِّئين.
الحركة الثانية: هي حركة الرِّدَّة الفعليَّة؛ أي نكث القبائل لعهودها التي عقدوها مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في المدينة وادِّعائهم أنَّ هذه العقود قد انتهت بوفاته، فامتنعوا عن دفع الزكاة.
وشاءت طبيعة الأحداث أن تندمج هاتان الحركتان؛ فكندة -مثلًا- التي ارتدَّت فعلًا بعد وفاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم التحقت بمركز الأسود العنسيِّ بعد أن انفصلت عن مركز المدينة، والمعروف أنَّ المصادر تدمج هذه الاتجاهات المختلفة في إطارٍ واحدٍ غير مميَّز وتسمِّيه الرِّدَّة مع العلم أنَّ مسيلمة الكذاب مثلًا لم يعتنق الإسلام ثُمَّ ارتدَّ عنه وادَّعى النبوة حتى ننعته بالمرتد.
من خلال هذه الرؤية فإنَّ لحركة الرِّدَّة أكثر من خلفيَّة لا تبدو بالضرورة متجانسة، ولكنَّها تضافرت مع بعضها وأدَّت إلى تفجير الوضع؛ وهذا يعني أنَّ الرِّدَّة بمفهومها الفقهيِّ لا تأخذ بُعدها الشموليِّ لدى جميع القبائل؛ لأنَّ بعضها كانت تُحرِّكه دوافع سياسيَّة أو اقتصادية لم تُصب مطلقًا جوهر العقيدة[13].
إذا تجاوزنا عدم التمييز الذي تعتمده المصادر فإنَّ حركة الرِّدَّة بعامَّةٍ تُمثِّل الجانب الديني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي من ردود الفعل التي أحدثها فورًا موت النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وعليه يُمكن تصنيف المرتدِّين والمنتفضين على حكم المدينة إلى أربع فئات:
الأولى: هي التي اعترضت على نتائج السقيفة مع احتفاظها بإيمانها وصلتها بالعقيدة الإسلامية؛ غير أنَّها وعت بعد استتباب الأمر لأبي بكرٍ رضي الله عنه، ولم ترتدَّ عن الإسلام.
الثانية: هي التي ارتدَّت عن الإسلام ووضع زعماؤها التيجان على رءوسهم[14].
الثالثة: هي التي رفضت دفع الزكاة إلى أبي بكرٍ رضي الله عنه بوصفها نوعًا من التبعية والتقييد لحرية واستقلال هذه القبائل.
الرابعة: هي التي تبعت المتنبِّئين حتى اعتقد بعض الزعماء القبليِّين أنَّ ادِّعاء النبوَّة وسيلةٌ للوصول إلى الحكم، مدفوعين بعامل العصبيَّة القبليَّة.
انتشرت حركة الرِّدَّة جغرافيًّا مع معظم أنحاء الجزيرة العربية، وامتدَّت من البحرين وعمان على طول ساحل الخليج العربي، ومن الشرق إلى الجنوب الشرقي، ومن هناك إلى حضرموت[15] واليمن في الجنوب، ثُمَّ من هناك إلى اليمامة[16]؛ أي أنَّ هذه الحركة شكَّلت شبه نصف دائرة أحاطت بالقسم الأكبر من الجزيرة العربية.
المصدر: كتاب تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] لم تزد مدَّة خلافة أبي بكرٍ رضي الله عنه عن سنتين وثلاثة أشهر وعشرة أيام.
[2] الطبري: ج3 ص225- 242، ورد في التنزيل: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} [المائدة:
الآية 54]. ارتدَّ عنه: تحوَّل، والاسم الرِّدَّة، ومنه الرِّدَّة عن الإسلام أي الرجوع عنه، وارتدَّ فلان عن دينه أو كفر بعد إسلامه، وردَّ عليه الشيء إذا لم يقبله، وكذلك إذا أخطأه، ونقول: ردَّه إلى منزله، وردَّ إليه جوابًا أي رجع، والرِّدَّة بالكسر: مصدر قولك: ردَّه بردِّه، والرِّدَّة الاسم من الارتداد. وفي حديث القيامة والحوض يُقال: "إنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ"؛ أي متخلِّفين عن بعض الواجبات. انظر: ابن منظور، جمال الدين محمد: لسان العرب: ج3 ص173.
[3] الدوري: مقدمة في تاريخ صدر الإسلام: ص37.
[4] سالم، السيد عبد العزيز: تاريخ الدولة العربية: ص434، 435.
[5] عاشور، سعيد عبد الفتاح: بحوث في تاريخ الإسلام وحضارته: ص56.
[6] انظر تفسير ابن كثير: ج4 ص218، 219.
[7] الطبري: ج3 ص258.
[8] هيكل، محمد حسين: الصدِّيق أبو بكر: ص99، 100.
[9] اشرأبت: ارتفعت وعلت.
[10] تاريخ الرسل والملوك: ج3 ص225.
[11] هيكل: ص99.
[12] وفي رواية: عيهلة "بمثناة تحتية".
[13] بيضون: ص25، 26.
[14] كان النعمان بن المنذر بن ساوى التميمي في البحرين قد وضع التاج على رأسه،
وكذلك فعل لقيط بن مالك ذو التاج بعمان. انظر اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب: تاريخ
اليعقوبي: ج2 ص13- 17.
[15] حضرموت: ناحية واسعة في شرقي عدن بقرب البحر. الحموي: ج2 ص270.
[16] اليمامة: معدودة من نجد وقاعدتها حجر، كانت في الماضي منازل طسم وجديس.
المصدر نفسه: ج5 ص442.
التعليقات
إرسال تعليقك